الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (23): {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ} مما نزل بهم من الشدة والكربة، والفاء للدلالة على سرعة الإجابة {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض} أي فاجأوا الفساد فيها وسارعوا إليه مترامين في ذلك ممعنين فيه من قولهم: بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وزيادة {فِى الأرض} للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: {بِغَيْرِ الحق} تأكيدًا لما يفيده البغي إذ معناه أنه بغير الحق عندهم أيضًا بأن يكون ظلمًا ظاهرًا لا يخفى قبحه على كل أحد كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: 61]وقد فسر البغي بإفساد صورة الشيء وإتلاف منفعته وجعل {بِغَيْرِ الحق} للاحتراز مما يكون من ذلك بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وحرق زروعهم كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة.وتعقب بأنه مما لا يساعده النظم الكريم لأن البغي بالمعنى الأول هو اللائق بحال المفسدين فينبغي بناء الكلام عليه. والزمخشري اختار كون ذلك للاحتراز عما ذكر. وذكر في الكشف أنه أشار بذلك إلى أن الفساد اللغوي خروج الشيء من الانتفاع فلا كل بغى أي فساد في الأرض واستطالة فيها كذلك كما علمت وإن كان موضوعه العرفي للاستطالة بغير حق لكن النظر إلى موضوعه الأصلي، وقيل: إن البغي الذي يتعدى بفي عنى الإتلاف والإفساد وهو يكون حقًا وغيره والذي يتعدى بعلى عنى الظلم، وتقييد الأول بغير الحق للاحتراز وتقييد الثاني به للتأكيد، ولعل من يجعل البغي هنا عنى الظلم يقول: إن المعنى يبغون على المسلمين مثلًا فافهم {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} توجيه الخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ} الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: {على أَنفُسِكُمْ} أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك، وقوله تعالى: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والمراد من ذلك بيان كون ما في البغي من المنفعة العاجلة شيئًا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال، وقيل: إنه منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال أي متمتعين، والعامل هو الاستقرار الذي في الخبر ولا يجوز أن يكون نفس البغي لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، وأيضًا لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته. وتعقب بأنه ليس في تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به.وقيل: على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار أيضًا وفيه ما في سابقه، وقيل: على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا.واعترض بأن هذا يستدعي أن يكون البغي عنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه، وجعل المصدر أيضًا عناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكى عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذٍ تنتفي المناسبة ويفوت الانتظام، وجعل الأول أيضًا عناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه.وقيل: على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار. وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم، وقيل: العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة، وقيل: على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر، والمراد بالأنفس الجنس، والخبر محذوف لطول الكلام، والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك. وفيه الابتناء على أن البغي عنى الطلب وقد علمت ما فيه. نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا مذموم كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول. وقرأ الجمهور {متاع} بالرفع.قال صاحب المرشد: وفيه وجهان، أحدهما: كونه الخبر والظرف صلة المصدر. والثاني: كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، وزيد وجه آخر وهو كونه خبرًا بعد خبر لبغيكم، والمختار بل المتعين على الوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الاستعارة، والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتع المذكور على ما ينبغي من الحقوق، ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام. وقرئ بنصب المتاع {والحياة} وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل اشتمال من الأول.وقيل: على أنه مفعول به له إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بجرهما على أن الثاني مضاف إليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع، وجوز أن يكون المصدر عنى اسم الفاعل أي متمتعات، وضعف كونه بدلًا إذ قد أمكن كونه صفة هذا وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى. وقد أخرج أبو الشيخ. وأبو نعيم. والخطيب. والديلمي. وغيرهم عن أنس قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة والسلام {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}».وأخرج البيهقي الشعب عن أبي بكرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم» وأخرج أيضًا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبغي على الناس إلا ولد بغى أو فيه عرق منه».وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» وكأن المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه.وعقد ذلك الشهاب فقال: {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا، وإنما غير السبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر.{فَيُنَبّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا على الاستمرار من البغي فهو وعيد وتهديد بالحزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره. .تفسير الآية رقم (24): {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}{إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} كلام مستأنف لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع فيها، وأصل المثل ما شبه مضربه ورده ويستعار للأمر العجيب المستغرب، أي إنما حالها في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ} أي فكثر بسببه {نَبَاتُ الأرض} حتى التف بعضه ببعض، فالباء للسببية ومنهم من أبقاها على المصاحبة، وجعل الاختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاء للنبات فيجري فيه ويخالطه والأول هو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام} كالبقول والزروع. والحشيش والمراعي، والجار والمجرور في موضع الحال من النبات {حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض} أي استوفت واستكملت {زُخْرُفَهَا} أي حسنها وبهجتها {وازينت} بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة.وقد ذكر غير واحد أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح، وقيل: الزخرف الذهب استعير للنضارة والمنظر الشار، وأصل ازينت تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت فاجتلبت همزة وصل للتوصل للابتداء بالساكن، وبالأصل قرأ عبد الله، وقرأ الأعرج. والشعبي. وأبو العالية. ونصر بن عاصم. والحسن بخلاف {وازينت} بوزن أفعلت كأكرمت، وكان قياسه أن يعل فيقلب ياؤه ألفًا فيقال أزانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغيلت المرأة إذا سقت ولدها الغيل وهو لبن حملها عليه وقد جاء أغالت على القياس.ومعنى الأفعال هناك هنا الصيرورة أي صارت ذات زينة أو صيرت نفسها كذلك، وقرأ أبو عثمان النهدي {أزيأنت} بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة وياء مفتوحة وهمزة كذلك ونون مشددة وتاء تأنيث، وأصله ازيانت بوزن احمارت بألف صريحة فكرهوا اجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحة كما قرئ {الضألين} [الفاتحة: 7] وجاء أيضًا احمأرت بالهمزة كقوله: وقرأ عوف بن جميل {ازيانت} بألف من غير إبدال، وقرئ {ازاينت} لقصد المبالغة {وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي على الأرض، والمراد ظنوا أنهم متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها، وقيل: الكناية للزروع، وقيل: للثمرة، وقيل: للزينة لانفهام ذلك من الكلام {أَتَاهَا أَمْرُنَا} جواب {إِذَا} أي نزل بها ما قدرناه من العذاب وهو ضرب زرعها ما يجتاحه من الآفات والعاهات كالبرد. والجراد. والفأر. والصرصر. والسموم. وغير ذلك {لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} أي في ليل أو في نهار، ولعل المراد الإشارة إلى أنه لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم وزمن يقظتهم إذ لا يمنع منه مانع ولا يدفع عنه دافع {فَجَعَلْنَاهَا} أي فجعلنا نباتها {حَصِيدًا} أي شبيهًا بما حصد من أصله، والظاهر أن هذا من التشبيه لذكر الطرفين فيه فإن المحذوف في قوة المذكور، وجوز أن يكون هناك استعارة مصرحة والأصل جعلنا نباتها هالكًا فشبه الهالك بالحصيد وأقيم اسم المشبه به مقامه، ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصيد بل الهالك به.وذهب السكاكي إلى أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض المزخرفة والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يزيله ويفنيه وجعل الحصيد تخيلًا ولا يخفى بعده {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} أي كان لم يغن نباتها أي لم يمكث ولم يقم، فتغن من غنى بالمكان إذا أقام ومكث فيه ومنه قيل للمنزل مغني، وقد حذف المضاف في هذا وفيما قبله فانقلب الضمير المجرور منصوبًا في أولهما ومرفوعًا مستترًا في الثاني، واختير الحذف للمبالغة حيث أفاد ظاهر الكلام جعل الأرض نفسها حصيدًا وكأنها نفسها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها، وقد عطف بعضهم عليهما {عَلَيْهَا} لما أن التقدير فيه على نباتها فحذف المضاف وجر الضمير بعلى وليس بالبعيد خلا أن في كون الحذف للمبالغة أيضًا ترددًا، وقيل: ضمير {تَغْنَ} وما قبله يعودان على الزرع كما قيل في ضمير {عَلَيْهَا} وقيل: يعودان على الأرض ولا حذف بل يجعل التجوز في الإسناد. وأنت تعلم أن إرجاع الضمائر كلها للأرض ولو مع ارتكاب التجوز في الإسناد أولى من إرجاعها لغيرها كائنًا ما كان. نعم إنه لا يمكن إرجاع الضمير إليها في قراءة الحسن {يُغْنِى} بالياء التحتية وجعل ذلك من قبيل ولا أرض أبقل أبقالها كما ترى فينبغي أن يرجع للنبات أو للزرع مثلًا ومآل المعنى كأن لم يكن نابتًا {بالامس} أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك، والجملة التشبيهية جوز أن تكون في محل النصب على أنها حال وأن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب جوابًا لسؤال مقدر، والممثل به في الآية ما يفهم من الكلام وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطامًا لم يبق له أثر بعد ما كان غضًا طريقًا قد التف بعضه ببعض وازينت الأرض بأوالنه حتى طمع الناس وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن دخلته كاف التشبيه فإنه من التشبيه المركب مع اشتمال الكلام نفسه على أمور حقيقية وأمور مجازية فيها من اللطافة ما لا يخفى. وعن أبي أنه قرأ {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالامس وَمَا أهلكناها إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا} {كذلك} أي مثل ذلك التفصيل البديع {نُفَصّلُ الآيات} أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في معانيها ويقفون على حقائقها، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون، وجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادًا وإعدامًا فإنها آيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادًا وإعدامًا فإنها آيات وعلامات يستدل بها المتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالًا ومآلًا والأول هو الظاهر.وعن أبي مجلز أنه قال: كان مكتوبًا إلى جنب هذه الآية فمحى {وَلَوْ أَنَّ عَلَيْهِمْ ءايات الرحمن خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ}.
|